مدينة روتشستر، ولاية مينيسوتا: إذا كنتم قد شاهدتم فيلم “توب غان: مافريك”، فقد رأيتم صورةً خياليةً لطيارين حربيين يقومون بمناورات جوية مذهلة في ظروف صعبة جداً تتحدّى قوة الجاذبية. لذلك، نشارككم الدور الذي لعبته مايو كلينك في مساعدة الطيارين الأمريكيين على الوصول إلى تلك الارتفاعات في الحرب العالمية الثانية.
في عام 1942، أوكلت الحكومة الأمريكية سرًا إلى مجموعة صغيرة من الأطباء والباحثين في مايو كلينك مهمة تطوير تكنولوجيا من شأنها أن تسهم في تحقيق الولايات المتحدة وحلفائها النصر بعد بضع سنوات.
لقد قام أطباء وباحثو مايو كلينك والتر بوثبي، دكتور الطب؛ دبليو راندولف لوفليس الثاني، دكتور الطب؛ وآرثر بلبوليان، بكالوريوس في جراحة الأسنان، بتصميم قناع أكسجين، يُعرف بقناع “بي إل بي” (بوثبي- لوفليس- بلبوليان)، قبل بضع سنوات لحل مشكلة ركاب الطائرة الذين يعانون من انخفاض مستويات الأكسجين أثناء الطيران. وكان هناك حاجة إلى إجراء بعض التعديلات البسيطة ليلبي هذا القناع الاحتياجات العسكرية أثناء الحروب.
وسرعان ما بدأ الدكتور بلبوليان في تحسين القناع للطيارين الذين يحلقون بطائرات أعلى وأسرع من الطائرات العادية. حيث استطاع قناع “بي إل بي” المُطوّر، المعروف الآن باسم قناع آيه-14، تزويد الطيارين بأكبر قدر من الأكسجين الإضافي وفقًا لحاجتهم، كما أنه مقاوم للضباب ويحتوي على ميكروفون للاتصال اللاسلكي.
وما إن نجح الدكتور بلبوليان في حلّ إحدى المشكلات، حتى اكتشف الجيش الأمريكي مشكلة أخرى. إن الطيارين الذين يتعرّضون لقوّة جاذبية عالية جداً يُصابون بالإغماء. فعند التعرّض لضِعفي قوة الجاذبية، يشعر الطيارون بضِعفي وزنهم الطبيعي، مما يزيد من الضغط على أجسادهم في مقاعدهم. وعند التعرّض لثلاثة أضعاف قوة الجاذبية، يشعرون بثقل ثلاثة أضعاف وزنهم الطبيعي، وهكذا دواليك. مع ازدياد قوة الجاذبية، يصبح من الصعب على القلب ضخ الدم إلى الرأس، مما يؤدي إلى نقص الأكسجين في الدماغ. ولاكتشاف كيفية محاولة الطيارين التغلب على هذه المشكلة بأنفسهم، توجّه إليهم الباحثون مباشرة لمعرفة المزيد.
يقول جان ستيبانيك، دكتور الطب، مدير الطب الجوي في مايو كلينك في أريزونا: “قال الطيارون إنهم يصرخون دوماً بأعلى صوتهم إذا كانوا على وشك التحليق بعيداً عن غارة لإلقاء القنابل. فعندما يصرخ المرء بأعلى صوته، يرتفع مستوى الضغط في الصدر، مما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم طوال مدة الصراخ”.
لقد كان هدف باحثي مايو كلينك: إيرل وود، دكتور الطب، والحاصل على الدكتوراه؛ وتشارلي كود، دكتور الطب، إيجاد طريقة عملية للحفاظ على تدفق الدم إلى الدماغ خلال التعرض لضغط الجاذبية، لأن الطيارين لا يسعهم الصراخ لفترة طويلة. مما أدى إلى تطوير مناورة إم-1 أو مايو-1. ثم تطور الأمر إلى ما يُعرف اليوم بمناورة الإجهاد المقاومة لقوة الجاذبية، والتي يطلق عليها اسم “ذا جرانت”.
“إنها مناورة إجهاد مصممة بشكل أساسي لزيادة ضغط الدم الشرياني. وتتكون من تقلصات إرادية في الساقين وعضلة ربلة الساق، والفخذين والذراعين مع زيادة الضغط في البطن” – كما يقول الدكتور وود في مقابلة لفيلم إرث مايو كلينك، بعنوان “الوصول إلى آفاق جديدة: قصص سرية حول وحدة مايو كلينك للطب الجوي”. “وعندما يعرف الشخص كيفية فعل ذلك، يمكنه زيادة ضغط الدم… إذا ما تدرب على الأمر بجهد كافٍ”.
وقد جعلت هذه المناورة الطيارين يركزون على شد أجسامهم والتحكم بتنفسهم حتى يتدفق الدم بسهولة أكبر إلى قلوبهم وأدمغتهم، مما يقي من فقدان الوعي تحت وطأة قوة الجاذبية العالية. لم تستطع مناورة الإجهاد المضادة لقوة الجاذبية وحدها حملهم على التحليق بأمان أعلى من ظروف ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف القوة التي يتمكن للطيّار تحمّلها. ما تزال مناورة الإجهاد المضادة لقوة الجاذبية هامة للغاية للطيارين وحتى الآن: “لقد كانت تلك المناورة أمرًا قابلًا للتعليم والتدريب، ويمكن القول إنها أكثر أهمية من بدلة الطيران جي” – كما يقول الدكتور ستيبانيك.
وبالرغم من تطوير النموذج الأصلي لبدلة الطيران جي وقتها بالفعل، فقد سمحت التحسينات التي أدخلها الدكتور وود، وديفيد كلارك، نسَّاجٌ من ماساتشوستس، للطيارين بالتحليق في ظروف تسعة أضعاف قوة الجاذبية التي يمكن للطيّار تحمّلها. حيث اقتبس الدكتور وود، وكلارك الفكرة المبتكرة لبدلة الطيران جي، التي طورها فريق بقيادة ويلبر فرانكس، دكتور الطب، في جامعة تورنتو عام 1941، وابتكرا نظامًا قابلًا للنفخ من خمس أكياس هوائية يمكن حشوها في أي لباس. في الوقت عينه، أتمَّ فريق الطب الجوي صُنع صمّامًا لربط البدلة بنظام ضغط الهواء بالطائرة بشكل يُعتمد عليه. وبينما كان التصميم السابق يركز أكثر على قوة السحب الخاصة بالجاذبية، فقد ركز تصميم الدكتور وود على زيادة الضغط الشرياني دون الحاجة إلى انتباه من الطيار أو جهد منه.
لم يكن اختبار تصميم البدلة بالأمر السهل. إذ لم يرغب الباحثون والأطباء في اختبار هذا التصميم المبدئي على الآخرين لأن التأثيرات التي تسببها قوة الجاذبية العالية، أي نقص الأكسجين في الدماغ ونقص تدفق الدم إلى القلب، لم تكن معروفة بعد. لذلك، اختبروه على أنفسهم.
وقد أدت الحاجة إلى اختبار تصاميم بدلة الطيران جي إلى قيام باحثي مايو كلينك ببناء جهاز طرد مركزي بشري عملاق في مبنى العلوم الطبية في مدينة روتشستر. حيث كان جهاز الطرد المركزي، الذي صممه وصنعه الدكتور كود؛ وإي. جيه. بالديس، دكتور الطب؛ وأدريان بورتر، الأول من نوعه في الولايات المتحدة. وتم ربط قُمرة قيادة المحاكاة بطرف هيكل فولاذي أنبوبي مُدعَّمٍ ببقايا محرّك سيارات كرايسلر المحطمة. حيث قام اثنان من الدواليب الموازنة (البكرات) بوزن 20 طُنًا بتوفير القوة الدافعة والطاقة لتدوير قُمرة القيادة بسرعات عالية، مما أدى إلى خلق قوة جاذبية عالية. وباستخدام جهاز الطرد المركزي، جمعت وحدة الطب الجوي في مايو بيانات كاملة أولى من نوعها على الإطلاق حول تأثيرات قوة الجاذبية.
وعندما سُئل الدكتور وود عن الضرر غير المعروف الذي يسببه نقص الأكسجين في الدماغ، قال في الفيلم إنه لم يفكر في الأمر حقًا: “لا أتذكر أنني قلقتُ من أن تتسبب حالات الإغماء المتكررة وما شابهها في أضرار دائمة. نحن لم نقلق بشأن ذلك أبدًا”.
وحتى مع وجود البيانات، أراد الطيارون دليلًا واقعيًا على أن البدلات ستعمل قبل أن يخاطروا بحياتهم لأجلها. مما أدى إلى قيام فريق مايو كلينك للطب الجوي بطلب طائرة مقاتلة – القاذفة الانقضاضية دوغلاس دونتليس – وطيارٍ متطوعٍ. وبغرض اختبار الاختراعات، قام الطيار بالتحليق بالطائرة والباحثون جالسون في المقعد الخلفي. لقد أثبتت هذه التجارب الواقعية، بقيادة إدوارد لامبرت، دكتور الطب، الحاصل على الدكتوراه، أن بدلة الطيران جي وحدها يمكن أن توفر حماية تصل إلى سبعة أَضعاف قوة الجاذبية. وعند إدماج البدلة مع مناورة الإجهاد المقاومة لقوة الجاذبية، يمكن للطيارين تحمّل ما يصل إلى تسعة أضعاف قوة الجاذبية. وبعد الاختبارات، وافق الجيش والبحرية على التصميم المبدئي لبدلة الطيران جي الجديدة، بل وأحيانًا ما يُنسب إليها أنها أحدثت فرقًا ساهم في الانتصار في الحرب العالمية الثانية.
أما اليوم، فإن الطيارين الحربيين في جميع أنحاء العالم يستخدمون فكرة بدلة الطيران جي ومناورة الإجهاد المقاومة لقوة الجاذبية التي أنشأها الفريق في مايو كلينك. لمعرفة المزيد، تفضل بزيارة موقع ديسكفريز إيدج وموقع مايو كلينك للتاريخ والتراث وصفحة الويب الخاصة بمكتب البحوث الطبية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية.
###
نبذة عن مايو كلينك
مايو كلينك هي مؤسسة غير ربحية تلتزم بالابتكار في الممارسات السريرية والتعليم والبحث وتوفير التعاطف والخبرة لكل مَن يحتاج إلى الاستشفاء والرد على استفساراته. لمعرفة المزيد من أخبار مايو كلينك، تفضَّل بزيارة شبكة مايو كلينك الإخبارية.